بسم الله الرحمن الرحيم
- لا نأسف على الإزعاج -
*الحلقة السادسة :-
عنوان الحلقة : #الخروج_من_بطن_الحوت
.
.
قصص الأنبياء في القرآن الكريم لا تشبه في شيء حكايات ما قبل النوم !
رغم أنّنا كثيراً ما نتعامل معها على أنّها كذلك ..
على العكس .. قصص الأنبياء يجب أن تجعلنا ننهض , نستيقظ , تطرد النوم من عيوننا ..
كان لقصص الأنبياء دوماً هذا الدّور .. و لكن بالنسبة لرسول الله –صلى الله عليه وسلّم- فقد كانت أيضاً تُحَدِّثهُ عن مَن سبقه من الأنبياء .. كانت تختصر له التجربة ..
و هذا يجعلنا نسأل : مَن هو أول نبيّ نزلت قصّته على رسول الله –صلى الله عليه وسلّم- ؟
بعبارة أخرى : مَن هو أول نبيّ ذُكِرت قصّته في القرآن الكريم حسب ترتيب النّزول ؟
هل هو سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء , و الذي سمّانا "مسلمين" , و الذي تنتمي له كل الديانات التّوحيديّة ؟
لا , رغم هذه المكانة .. لم يكن هو !
هل هو سيدنا موسى كليم الله , و الذي تحتل قصّته مع قومه و مع فرعون مساحة واسعة من القرآن الكريم ؟
لا ..
هل هو سيدنا عيسى صاحب الرسالة السماوية الأقرب زمنياً للرسالة الخاتمة ؟
لا ..
هل هو سيدنا نوح , الذي أنقذ البشرية من طوفان ذنوبها ؟
لا .. لم يبدأ القرآن بقصّة صاحب السفينة ..
- بل بدأَ و يا للعجب بقصة صاحب الحوت !
" فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ "
هذه الآية هي من سورة القلم .. و هي ثاني ما أنزل من القرآن الكريم بعد سورة العلق ..
نحن إذاً في مرحلة مبكرة جداً من نزول القرآن الكريم و من الدعوة .. نحن غالباً في " سنة أولى دعوة " ..
لكن لا بد أن هناك شيئاً ما في قصة سيدنا يونس عليه السلام يجعل هذه القصة هي أول ما تنزل من قصص الأنبياء في القرآن الكريم !
كيف قَدَّمَ القرآن الكريم قصة صاحب الحوت ؟
لا يذكر القرآن قصّة سيدنا يونس إلا في ثلاثة مواضع : ( سورة القلم , سورة الصّافات , سورة الأنبياء ) ..
كل هذه المواضع تشترك في أنّها تتحدث عن القصة بعد خروج يونس من قريته .. كما لو أنّ المميز في قصة سيدنا يونس هو هذا " الخروج" !
كما لو أنّ العلامة الفارقة .. في هذا الخروج من القرية , أو في سبب الخروج ..
خرج بعض الأنبياء من قُراهم .. خرج إبراهيم , لوط , موسى , محمد .. - عليهم الصلاة و السلام أجمعين - ..
لكن خروجهم كان مختلفاً . . لقد خرجوا بعدَ أن استُنفِدَت أساليب الدّعوة ! .. و خرجوا بوحيٍ من الله عزّ و جلّ ..
مع سيدنا يونس .. كان الأمر مختلفاً ؛ لم تكن أساليب الدّعوة قد استُنفِدَت , و لم يكن هناك وحي للخروج ..
لقد خرج يونس غاضباً .. وصفهُ القرآن أنّه " ذَهَبَ مُغَاضِبَاً " .. مِمَّ ؟
من قومة لأنهم لم يسمعوه ؟ , من نفسه لأنه لم يجعلهم يسمعوه ؟ لا نعرف ..
لكن في لحظةٍ صعبةٍ مُرَّةٍ .. تَصوَّرَ يونس أن لا أمل في قومه , تصوَّرَ أنه لا يمكن أن يغير شيئاً فيهم !
القرية التي خرج منها سيدنا يونس لم تكن أيَّ قرية .. لقد كانت " نينوى" ؛ عاصمة الحضارة الآشوريّة .. و هي المُوصل ؛ المدينة العميقة العريقة ..
كانت نينوى بالنسبة للعالم القديم مثل "نيويورك " أو " طوكيو " أو "باريس" .. في عالم اليوم ..
أمام نينوى و جبروتها و ثيرانها المُجنحة الشهيرة و جيوشها التي وصلت كل مكان .. وقف يونس و هو يسأل : ماذا بوسع رجل واحد أن يفعل أمام مدينة بأكملها , و مدينة مثل نينوى ؟
خرج يونس غاضباً من كل هذا , ركب البحر .. ربما ليبدأ بداية جديدة في مكان أيسر ..
لكن ما ترك مواجهته في نينوى .. ذهب ليطارده في عرض البحر !
هبّت عاصفة هوجاء .. و تصورَ الركاب بعقليتهم الوثنية أنّ آلهة البحر غاضبة من أحد الركاب و يجب أن يتم التخلص من هذا الراكب ..
كيف سيُحَدَّد ؟ بالقرعة .. و من دون كل الركاب وقف الاقتراع عند يونس !
أُلقِيَ في البحر .. و هناك ابتلعه الحوت ..
في بطن الحوت , في الظلمة .. بزغَ النّور من فهمٍ جديد .. لقد فهم يونس الدّرس ؛ أنّك إن لم تواجه القيم السلبية فإنها ستطاردك في كل الأحوال !
ترك يونس المواجهة في نينوى لكنّه وجد نفسه في مواجهة نفس ما واجهه في عرض البحر ..
في بطن الحوت ؛ في الظلمة .. بزغ الفهم ! .. بزغَ النّور من هذا الفهم .. و اتَّخَذَ شكل التسبيحة الشهيرة : " لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ " ..
هكذا قال يونس ..
" أنت من الظالمين يا يونس ؟ أنت مظلوم .. لقد ألقوا بك في البحر بعد قرعة ظالمة ! "
لكن لا .. لقد تغير معنى الظلم بالنسبة ليونس !
الظلم : هو أن تترك دورك , أن لا تؤدي ما يجب أن تؤدّيه !
للظلم أشكال متعددة .. لكن أقسى و أقصى ظلم يمكن أن يحدث ؛ يبدأ من شخص ما ترك أداء دورهُ !
كيف يمكن ربط هذا كله ببداية الدعوة و بداية نزول القرآن في مكة ؟
الربط واضح .. مكة و خلفها قبائل العرب , و الكعبة و فيها من الأوثان بعدد أيام السنة ! , و القيم السلبية ؛ الجهل , التواكل , الوثنية .. كلها كان يمكن أن تجعل الرسول عليه الصلاة و السلام يقول : ماذا بوسع رجل واحد أن يفعل !
تذكرون عندما ذهب رسول الله إلى الطائف كيف تلقّاه أهلها ؟ بالحجارة , و بالسخرية التي هي أشد من الحجارة ..
يومها .. انسحب رسول الله إلى ظل بستانٍ ليستريح مما لاقاه من أهل الطائف ..
فجاءهُ خادم نصراني اسمه " عدّاس " بقطفة عنب , فسأله رسول الله : من أين أنتَ ؟
فقال عدّاس : من نينوى ..
فقال رسول الله : من قرية الرّجل الصالح يونس بن متّى ؟
كما لو أنّ عدّاس قد جاء في هذا الوقت ليذكّر رسول الله بقصّة صاحب الحوت , بـ لا تكن كصاحب الحوت , بـ الأمل رغم كل المصاعب !
ماذا عنك يا صديق ؟
هل ستقول : ما علاقتي أنا بقصّة صاحب الحوت ؟
هل تعتقد أنها مجرد حدوتة و انتهت ؟
لا يا صديق .. قصص القرآن لا تنتهي أبداً ..
دوماً .. ثمةَ حوت يتربص بك .. ليس بالضرورة في عرض البحر ..
بل في طول و عرض و عمق الحياة !
في كل مفترق طرق .. ثمّةَ حوت يتربص بك !
يريد أن يسحبكَ .. أن يبتلعك مثل ثقب أسود عملاق !
له أسماء متعددة بطن الحوت هذا ؛ أحياناً اليأس , السلبية , الكسل , الاستسلام , البطالة , التطرف , الـ لا شيء !
أن لا تفعل شيئاً بحياتك في حياتك لحياتك !
أن تأتي هذا الكوكب و تغادره دون أن تترك بصمةً واحدة !
إيّاكَ .. أن تكون سمكة داخل بطن حوت ..
لا يشترط أن يكون بطن الحوت هذا مظلماً .. ربما كان مبهرجاً بألوان برّاقة .. و أنت سعيد لكونكَ سمكة داخل بطن حوت مبهرج !
إيّاكَ .. أن تكون سمكة زينة .. أو " سردينة بشرية " داخل بطن حوت !
إيّاكَ أن تموت قبل أن تَمُتْ !
لا تترك حوتك يبتلعكَ ..
لديكَ خيار أن تساهم في صنع السفينة !
فلماذا تذهب .. إلى بطن الحوت يا صديق ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق