الأربعاء، 12 نوفمبر 2014

شيخ من دمشق | العز بن عبد السلام




هو عالم من علماء دمشق وقاض من قاضتها وخطيب من خطباء جامعها الأموي ولكنه ليس كمن تعرفون من الخطباء والعلماء وليس من أمثالنا من القضاة وليس فينا من يشبهه أو يقاربه ليُمَثَّل عليه به , أنه طراز نادر لا تجود الدنيا بمثله إلا مرَّة واحدة في القرون الطوال .
ولم يكن هذا الشيخ من أسرة كبيرة ولا من بيت علم ولم يقبل علي الدراسة في مطلع شبابه ولكنه طلب العلم علي كبر فقد كان يبيت من فقره في مدرسة الكلاسة بين الأموي وقبر صلاح الدين وكانت تغلق أبوابها ليلاً ويبقي وحده فيها فاضطر في ليلة باردة إلي الاغتسال ولم يجد إلا بركة المدرسة فغطس فيها ونام فعاوده الاضطرار مرة ثانية فغطس فأغمي عليه من شدة البرد ,فشكا ذلك إلي شيخ في المدرسة فأفهمه أنه لو كان عالماً لما أقدم علي ضرر نفسه ولعرف أن التيمم يغني عن الغسل إن كان الغسل يؤدي إلي المرض .
كذلك (يا سادة ) لا يصلح التقي إلا بالعلم ولا يصلح العلم إلا مع التقي ,فالمتعبد الجاهل يضر نفسه وقومه , والعالم الفاسق يتخذ علمه وسيلة إلي الدنيا وسلماً لبلوغ الغني والجاه .
وأقبل من ذلك اليوم علي طلب العلم بهمة لم يكن لها مثيل ,يسهر ليله كله في العلم فلم تمر عشر سنين حتي صار أحد أفذاذ العلماء وأعلام الدنيا وكان فقيرا ولكن كان بين جنبيه نفس ملك وكان زاهدا في الدنيا يراها أهون من أن يهتم بها ويحرص عليها فلم يستعبد مال ولا جاه ولا امرأة , فمن هنا جاءت هذة الأخبار العجيبة عن جرأته علي الملوك والأمراء فاسمعوها ولكن لا تحاولوا أن تجربوا حتي تتخلقوا بالخلائق التي دفعته إليها وحملته عليها وحتي تعلموا أنه لم يعملها تظاهراً ولا إرضاء للناس ولا اكتساباً للجاه ,بل عملها وهو يراها كالشئ الطبيعي كالتنفس والطعام .

وَلِيَ " العز بن عبد السلام " خطابة الجامع الأموي مع القضاء بعدما شرط شروطاً قبلوها منه ,وأخذ عليهم العهود أن يطلقوا يده فالاصلاح ,فأصلح وأبطل بدعاً كثيرة , منها صلاة الرغائب , وصلاة نصف شعبان ,لان ما يفعله الناس من إحياء ليلة النصف من شعبان والدعاء فيها بهذا الدعاء المعروف لا أصل له في الدين والعلماء متفقون علي أنه من المحدثات .
وكان يحضر خطبته الملوك والأمراء ويجلونه ويكبرونه , فلما وقع الخلاف بين الملك الصالح اسماعيل في الشام وابن عمه ملك مصر , استعان الصالح بالافرنج الصليبيين وحالفهم علي ابن عمه . ومن عجائب المصادفات أن هذا الملك الخائن كان يلقب الملك الصالح وأعطي الأفرنج بلدين من بلاد المسلمين فغضب الشيخ لله ,وقام في الجمعة التالية علي المنبر الأموي فخطب في ذم موالاة الاعداء وتقبيح الخيانة وانتهت الخطبة وقام للدعاء للملك كما هي العادة , والملك حاضر في المسجد , فما كان منه إلا أن أعلن أن الملك قد خان وان الخائن لا ولاية له , وأعلن إسقاطه من الحكم .
لم يُراعِ صداقته ولم يحرص علي عطفه ولم يلجأ إلي زاوية مظلمة فيتلفت حواليه ثم يقول بصوت خافت : " اللهم أن هذا منكر لا أرضي به ولا أقدر علي إزالته ! " بل صدع بالحق علي المنبر فقبض عليه وضج الناس وتكلم العلماء فأرسل الملك إلي الشيخ من يقول له : إن الملك يعفو عنه بشرط أن يقبل يده .
قال الشيخ للرسول : يا مسكين , والله ما أرضي أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده !
فحبسه , ثم أرسل إلي الجبهة فسجنه في فساط قريب منه , وكان يقرأ القرآن مرة في محبسه وعند الملك وفود الأفرنج فقال لهم : أتسمعون هذا القارئ ؟ إنه أعظم قساوسة المسلمين وقد حبسته لإنكاره تسليمي الحصون لكم وعزلته عن منصبه !
قالوا ( واسمعوا ما قالوا ) :والله لو كان قسيينا لغسَّلنا رجليه وشربنا ماءهما!!!
ثم أُطلِقَ فسار إلي مصر فأكرمه ملكها , وولاه الخطابة والقضاء , فكان منقطعاً إلي التدريس و الإملاء والتأليف وخلف مؤلفات هي غاية الغايات في جودة البحث وتحقيق المقصد ووضوح الأسلوب وكان وفياً للعلم لا يبالي في سبيل الحق ورضاء الله ما يقوله الناس , 
أفتي رجلاً لا يعرفه في مسأله ثم ظهر له أنه أفتي خطأ ولم يكن في تلك الأيام جريدة ولا إذاعة فأخرج منادياً ينادي في شوارع مصر : يا أيها الناس من أفتاه أمس عز الدين بن عبد السلام في المسالة الفلانية ,فليعلم أن الجواب غلط وليأت ليسمع الجواب الصحيح !
لذلك سُمَّي سُلطان العلماء .

وكانت له في مصر وقائع مع الامراء نسمعها اليوم فنراها من باب الخيال .
كان الحكم للمماليك فنظر الشيخ فرآهم لا يزالون في نظر الشرع عبيداً , لم يتحرروا هم ,فضلاً عن أن يحكموا الاحرار  , فأعلن بوصفه القاضي  أنهم سيباعون في المزاد العلني وكان نائب السلطنة من المماليك الذين حكم الشيخ ببيعهم  .
وحسبوه يهزل فاذا هو جاد , فشكوه إلي السلطان فنهاه فلم ينته ,فقال له السلطان كلمة فيها غلظة فما كان من الشيخ إلا أن ...................
إلا أن ماذا ؟ ماذا ترونه صانعاً ؟ وهولا يملك قوة ولا مالاً , وقد ثار الحاكمين عليه و أراد أن يُزَيِّد علي رقابهم في السوق ويبيعهم كما تُبَاع الدواب !
ما كان منه إلا أن حمل امتعته علي حمار و أركب أهله علي حمار أخر وكانت هذة دنياه كلها , دنيا تُحمَل علي حمارين .......... وخرج من مصر .
تقولون : ثم ماذا ؟ وماذا يصنع خروجه ؟
لقد صنع العجائب يا سادة , لقد خرج أهل مصر جميعاً بالضجيج والعويل ,يسيرون خلفه وارتجف البلد و زلزلت مصر , وأسرعوا إلي السلطان يقولون له : تدارك مُلكَك لئلا يذهب بذهاب الشيخ !
فلحقه فأرجعه وأجاب إلي طلبه .
وذهب كبير المماليك بالسيف إلي دار الشيخ ليقتله , ولم يكن علي بابه حرس وحجاب وقرع الباب , فنزل الشيخ وفتح له فلما رآه الأمير , لم ير أمامه بشر يخوفه بالسيف ولكن رأي الشرع الذي لا تعمل فيه السيوف ,فسقط السيف من يده .
ونفذت كلمة الشيخ فنودي علي أمراء مصر في سوق العبيد !

وخرج الملك الصالح أيوب يوم العيد إلي الصلاة بموكبه ودبدبته وعظمته , العسكر مصطفون بين يديه , ووجوه المملكة يسيرون وراءه , والأعلام تلوح علي رأسه , والأمراء يقبلون الأرض أمامه
 واذا بشيخ يخرج من باب مدرسته يناديه باسمه : يا أيوب , فألتفت السلطان ودهش ووقف ووقف الناس و شُدِهوا , حتي كأن الطير علي رؤوسهم
, فقال له الشيخ : ما حجتك عند الله إذا قال لك : ألم أُبوئُ لكَ مُلكَ مصر ثم تبيح الخمور ؟
 قال : هل جري ذلك ؟
 قال : الخمارة الفلانية يباع فيها الخمر وفيها المنكرات وانت تتقلب في نعمة هذة المملكة .
قال الملك : يا سيدي هذا من زمان أبي .
قال : أنت من الذين يقولون إنا وجدنا اباءنا ؟
فأمر السلطان بأبطلها من ساعتها .
فلما دخل مدرسته سأله تلميذه ( الباجي العظيم ): يا سيدي لم فعلت ذلك .
قال : يا بني رأيته في تلك النعمة فأردت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه .
قال : يا سيدي أما خفته ؟
قال : تصورت هيبة الله فصار السلطان أمامي كالقطّ .

يا أيها السادة هذا الشيخ كان يعيش في دنيا من عقيدته وإيمانه , ترك دنيا الناس وزهد فيها ولم يحرص علي متعها ولذائذها ,فانقادت له الدنيا وذل له جبابرتها حتي وقف هذة المواقف التي نراها أدني من الخيال .
ومن خاف الله أيها الناس خافه كل شئ , ومن أخلص له وضع محبته وهيبته في كل قلب , أما من كان مثلنا يطلب الدنيا ويريد المال ويبغي الجاه ويحرص علي ثناء الناس , فهيهات أن يقدر علي شئ .*

* من كتاب " رجال من التاريخ " لـ علي الطنطاوي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق