السبت، 26 أكتوبر 2013

أم سُلَيم


تعرفون أم سُلَيم ؟
و من ذا لا يعرفها ؟! ... لا أظن أحداً يجهلها
هي صحابية جليلة و لها مآثر في الإسلام عظيمة ... 
هي أم أنس بن مالك وكفى , و لو أنها اكتفت بذلك لكان لها شرفاً و فخراً , و لكنها لم تقنع بذلك حتى تزوجت أبا طلحة الأنصاري على الإسلام فكانت أغلى نساء الدنيا مهراً
على أن ما فعلته أم سُلَيم كله كان في كفة , و موقفها يوم مات رضيعها في كفة أخرى !!!
فالنساء عموماً أسرع إلى الجزع من الرجال , و الأمهات خصوصاً أرق الناس قلوباً على الأبناء, و صغار الأبناء يكون التعلق بهم أكبر و العطف عليهم أشد.
أما أم سُلَيم ... فقد ضربت أروع الأمثلة في الصبر و الثبات و الرضاء بقضاء الله و التسليم الكامل لحكمه ... ثم ليس هذا فحسب , فقد ضربت أعظم صورة و أحلاها و أجملها لما يجب أن تكون عليه الزوجة الصالحة العاقلة التي تعرف كيف تُحسِن إلى زوجها و تقابله بما يسره و لا تُنَغِّص عليه حياته.
فكان عاقبتها أن أكرمها الله في ذريتها و رأت من أولادها و أحفادها العلماء العاملين و المجاهدين الفتاتحين.

و هذه رواية قصيرة تحاول أن تلقي الضوء على هذه النفوس العظيمة و المشاعر الفياضة التي كونت هذا المشهد الرائع


===================================================================


كان الرجل على غير عادته كما كان يراه إخوانه و زملائه في العمل، فقد جاء هذا اليوم إلى الحقل في أعالى المدينة بغير الوجه الذي يأتي به كل يوم . . . كان كسير النفس حزين القلب شارد الذهن . . . و لربما توقف عن عمله لحظات من فترة لأخرى و يشرد ببصره إلى السماء . . . لقد بدا و كأنه لايرى ما حوله من جمال النخيل الباسق و التربة السوداء الخصبة و لا يسمع هذا الصهيل العذب من تلك الخيل العربية الأصيلة التي يحبها العرب لدرجة تبلغ العشق . . .

اقترب منه أحد إخوانه و قال السلام عليك يا أبا طلحة
رفع أبو طلحة وجهه قائلا وعليك السلام و رحمة الله و بركاته يا كعب
قال كعب مالي أراك اليوم مهموماً حزينا

أخذ أبو طلحة نفسا عميقاً طويلاً ثم نَفَثَه و كأن حر الرمضاء قد خرج من صدره قائلاً لا شيء، غير أن ابني الصغير و أحب ولدي إلى قلبي تركته مريضاً في المنزل

ربت كعب على كتفه قائلاً لا حول و لا قوة إلا بالله . . . أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشفي ولدك و يُقِرَ عينك به، و ما علته؟

قال أبو طلحة قد تركته محموما قد ارتفعت حرارته، فرد عليه كعب و هل عنده من يُمَرِّضه ، قال أبو طلحة أجل، أمه عنده تعتني به

فحاول كعب أن يخفف عنه قائلا و قد رسم ابتسامة خفيفة على وجهه أبشر يا أخى فإن الله لا يكتب لنا إلا الخير و إن شاء الله تعود إلى البيت فتجده قد شفي و ملئ البيت لعباً و ضجيجاً فيرسم أبو طلحة إبتسامة باهتة مجاملة لأخيه الذي يحاول أن يُسَرِّي عنه

#   #   #
وضعت الأم طفلها المريض في حجرها و هي تنظر إليه و تمسح على رأسه بكل حنان الأم و حبها . . . و ما أدراك ما حب الأم إنه الحب الوحيد على وجه الأرض الذي يبدأ و ينمو و يكتمل و المُحِبُ بعدُ لم ير حبيبَه فهو يبدأ و ابنها مازال جنينا في بطنها . . . إنه الحب الصافي البرىء المجرد من كل غرض و غاية . . . إنه الحب الذي يجعل الأم على أتم استعداد أن تبذل حياتها رخيصة للحفاظ على حياة وليدها . . . إنه الحب الذي يجعل الفرس ترفع رجلها عن صغيرها مخافة أن تؤذيه . . . إنه الحب الذي يحمل الأم أن تسهر الليالي الطوال بجوار صغيرها المريض لا يغمض لها جَفن مادام عليلاً حتى يبراء. . .

نظرت الأم إلى وليدها و قالت لهفي عليك يا ولدي و الله ما أدري ما أصنع لك كيف لي أن أُوقِف هذه الحمي التي تأكل جسدك الصغير

دخلت عليها إحدى بناتها و قالت كيف حال أخي الصغير يا أماه . . .
قالت أم سُليم مازالت حرارته في ارتفاع و لم تفلح كل محاولات خفض الحرارة . . . قالت البنت ويحي عليك يا أخي ما عدتَ تملئ البيت حركة و لعباً و ضحكاً كما كنت.

قالت الأم لا تقولي هذا يا رُقية و لكن ادعي الله أن يشفيه فالله خيراً حافظاً و هو أرحم الراحمين . . . فقالت البنت أسأل الله العظيم أن يشفيه يا أماه.

ثم مرت ساعة و بدأ الطفل الصغير يحتضر بين يدي أمه فنظرت إليه و يجود بنفسه و قطرت من عينها دمعات حارة سالت على وجه الصغير رحمة به ثم فاضت روحه . . . فقالت إنا لله و إنا إليه راجعون لله ما أخذ و لله ما أعطى و كل شيء عنده بمقدار . . . فلم تصرخ و لم تشق جيباً و لا لطمت خداً إمتثالاً لأمر ربها و اتباعاً لسنة نبيها.

و ما أن علم أهل البيت بالخبر حتى علا صوتهم بالبكاء على الغلام الصغير . . . فسكنتهم أم سًليم و سكتتهم و قالت لهم أم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له و إن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له و مازلت بهم حتى سكنوا ثم قالت لا تخبروا أبا طلحة بأمر الغلام حتى أكون أنا أخبره . . . فوضعت الغلام في ناحية من البيت و سجَّت عليه ثوبًا.


#   #   #

دخل وقت العِشاء فقامت أم سُليم فهيئات العَشاء و لبِست أجمل ثيابها و تعطرت و جسلت تنتظر زوجها . . . و ما هو إلا قليلاً و سمعت صوت أبي طلحة يطرق الباب فقامت إليه بنفسها و فتحت له الباب و قالت حمدا لله على سلامتك يا زوجيَ الحبيب كم اشتقت إليك و ألقت بنفسها بين ذراعيه في دلال فربت أبو طلحة على كتفها في حنان فبادرته قائلة كيف كان يومك . . . نظر إليها و قد بدا عليه إرهاق يوم طويل من العمل الشاق في الحر و الشمس كما لا يخفى من وجهه علامات الخوف و الجزع على ابنه الصغير المحبب إلى قلبه . . .

و لكنه ما إن دخل و نظر إلى زوجته في أحلى صورة و شَمَّ هذا الريح الطيب الذي يفوح منها حتى استعاد بعض نشاطه و ابتسم قائلا الحمد لله يا سهلة (اسم أم سُليم) كان يوم عمل شاق كغيره من الأيام و لكني أحتسب عند الله الأجر إذ أني أسعى عليكِ و على أولادنا و أهلنا و أطعمكم من حلال لا شبة فيه . . . فابتسمت في دلال و قالت له بارك الله لنا فيك يا حبيبي . . . 
قال و لكنَّ أكثر ما كدّرَ عليَّ يومي هو همّي بأمر الغلام الصغير و قد تركته محموما كما تعلمين . . . فكيف هو الآن يا سهلة هل تحسنت صحته . . . فقالت له الحمد لله هو أسكن مما كان

ثم قالت تعالى يا أبا طلحة تناول عشاءك و ارتاح من عناء يومك . . . فتقدم أبو طلحة و كانا لايزالان واقفين عن باب الدار فدخل إلى غرفته فوجد زوجته قد أعدت له عشاءاً شهيا . . . جلس الزوجان على مائدة الطعام يتبدلان أطراف الحديث و كل منها يحكي للآخر كيف كان يومه ثم يخبرها أبو طلحة ماذا تعلم من رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا اليوم . . . 

فلما فرغا من الأكل قالت له هل شبعت يا حبيبي . . . فنظر إليها بعينين ملئهما الحب و الرضا و قال الحمد لله الذي أطعمنا و سقانا و جعلنا مسلمين سلمت يمينك يا أم سُليم و جزاك الله عني خيراً . . . فردت عليه بابتسامة عذبة و قالت و أنت جزاك الله عنا خيراً
و قامت الزوجة الحنون تتصنع لزوجها فقالت هل تذكر يا أبا طلحة يوم خطبتني و كنت يومئذ ماتزال على الكفر فقلت لك لا أتزوجك حتى تسلم فظننت أنت أنني لا أريد إلا الذهب و الفضة فقلت لك أنك إن أسلمت تزوجتك و اعتبرت ذلك مهري لا آخذ شيئا غيره . . . فأسلمت فتزوجنا . . . 

تبسم الزوج المحب لزوجته قائلاً أجل يا سهلة كم كان هذا جميلا و قد ظل الناس يتحدثون أنه لا يوجد امرأة أغلى منك مهراً و ضحك الزوجان . . . و استمرت الزوجة تتصنع لزوجها حتى كان بينهما ما يكون بين الرجل و أهله

ثم قالت أم سليم يا أبا طلحة  أرأيت آل فلان فإنهم استعاروا عارية من آل فلان فلما طلبوا عاريتهم أبوا أن يردوها . . . قال أبو طلحة ما كان ذلك لهم بحق إن العارية مؤداة إلى أهلها . . . قالت أم سُليم: فإن ابنك كان عارية من الله تعالى متعك به إذ شاء وأخذه إذ شاء وإن الله قد قبضه . . . 

فتغير وجهه و حزن على فقد ولده الصغير الحبيب و لكن لم يقل إلا إنا لله و إنا إليه راجعون . . . فأنّى له أن يجزع و هو يرى هذا الثبات العجيب من زوجته أم الغلام الصغير و هو مهما تكن رحمته بالغلام فلن تبلغ رحمة أمه به فاستلهم منها الصبر و السلوان و حمد الله و استرجع و الطلب من الله أن يخلفه خير مما أخذ منه

فلما أصبح أبو طلحة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره بالخبر فسأله رسول الله : "أعرَّسْتُم الليلة"  فقال أبو طلحة نعم . . .  فقال رسول الله  "اللهم بارك لكما " فولدت غلاماً سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله فقال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن ـ يعني من أولاد (عبد الله) المولود ـ وما ذاك إلا استجابة لدعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين دعا " اللهم بارك لكما  "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق